كلام الله مُعجِز، ومن إعجازه أنه يفسر حقائق كونية لم يكتشفها العلماء إلا بعد أزمان طوال، وقد عكف المفسرون على تفسير قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) والتفريق بين ذكر الله تعالى المشرقين والمغربين في هذه الآية الكريمة، وذكره المشارق والمغارب والمشرق والمغرب في مواضع أخرى، ولهم في ذلك آراء ومنح.
محتويات
معاني كلمات الآية الكريمة (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)
الرَّبُّ: اسم الله تعالى، والرَّبّ: المالك، والرَّبُّ: السيد.
أَحدُ الـمَغْرِبين: أَقْصَى ما تَنْتَهي إِليه الشمسُ في الصيف، والآخَرُ: أَقْصَى ما تَنْتَهِي إِليه في الشتاءِ؛ وأَحد الـمَشْرقين: أَقْصى ما تُشرِقُ منه الشمسُ في الصيف، وأَقْصَى ما تُشْرِقُ منه في الشتاءِ؛ وبين المغرب الأَقْصَى والـمَغْربِ الأَدْنى مائةٌ وثمانون مَغْرباً، وكذلك بين الـمَشْرقين.
وفي التهذيب: للشمس مَشْرِقانِ ومَغْرِبانِ: فأَحدُ مشرقيها أَقْصَى الـمَطالع في الشتاءِ، والآخَرُ أَقصى مَطالعها في القَيْظ، وكذلك أَحدُ مَغْرِبَيْها أَقصى الـمَغارب في الشِّتاءِ، وكذلك في الجانب الآخر.
أما المشارق والمغارب في الآية (فلا أُقْسِمُ برَبِّ الـمَشارق والـمَغارِب) جَمعَ، لأَنه أُريد أَنها تُشْرِقُ كلَّ يومٍ من موضع، وتَغْرُبُ في موضع، إِلى انتهاءِ السنة.
تفسير قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)
جاء في تفسير ابن عثيمين أن (رَبُّ) هذه خبرُ مبتدأٍ محذوف، والتقدير: هو رب المشرقين ورب المغربين، يعني: أنه مالكهما، ومدبرهما، فما من شيءٍ يشرق إلا بإذن الله، ولا يغرب إلا بإذن الله، وما من شيءٍ يحوزه المشرق والمغرب إلا لله عز وجل، وثنَّى المشرق هنا باعتبار مشرق الشتاء ومشرق الصيف؛ لأنه يختلف، فالشمس في الشتاء تشرق من أقصى الجنوب، وفي الصيف بالعكس، القمر في الشهر الواحد يشرق من أقصى الجنوب ومن أقصى الشمال.
وورد في تفسير الطبري: حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن ابن أبزى، قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قال: مشارق الصيف ومغارب الصيف، مشرقان تجري فيهما الشمس ستون وثلاث مئة في ستين وثلاث مئة بُرْج، لكلّ برج مطلع، لا تطلع يومين من مكان واحد. وفي المغرب ستون وثلاث مئة برج، لكل برج مغيب، لا تغيب يومين في برج.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال: ابن زيد، في قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قال: أقصر مشرق في السنة، وأطول مشرق في السنة، وأقصر مغرب في السنة، وأطول مغرب في السنة.
وجاء في تفسير السعدي للآية: هو تعالى ربّ كل ما أشرقت عليه الشمس والقمر، والكواكب النيّرة، وكل ما غربت عليه، [وكل ما كانا فيه] فهي تحت تدبيره وربوبيته، وثناهما هنا لإرادة العموم مشرقي الشمس شتاءً وصيفًا، ومغربها كذلك.
وقفات نورانية في تفسير قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)
مهما اختلفت أقاويل العلماء في تفسير المشرقين والمغربين، إلا أن الالتفات إلى ظلالهما هو ما سينطبع في النفس ويترك أثرًا روحانيًا عظيمًا يرتقي بإيماننا.
- يُذكِّر الله أنه رب المشرقين ورب المغربين فهو الذي أنعم علينا بتعاقبهما، ولا ينكر هذه النعمة إلا جاحد، فلو استمر الشروق أبدًا لاختل النظام الكوني وكذلك إذا استمر الغروب، فآلاء الله ونعمائه لا تحصى، لذا؛ أتبع هذه الآية بالآية الكريمة (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، ونحن إذ نؤمن بالله تعالى ونقر بنعمه نقول بعد هذه الآية «لا بأيِّها يا رب» أَيْ: لا نُكذِّب بِشيءٍ مِنها، كما كان يقول ابن عباس رضي الله عنه.
- ذكر الله (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ) وكذلك (رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) ليلفت انتباهنا أن رب الأرباب هو من خلق المشرقين والمغربين وهو من نظم حركتهما بلا خلل أو تعطل، وهذا ما لا يَقدر عليه البشر ولا يمكنهم تحدي الله في ذلك، فهذه آية للمؤمن ليزداد إيمانًا وللكافر ليرى جحوده أمام آيات الله وعظمته.
- خلْقُ الله للمشرقين والمغربين يجعلك ترى الله في كل ما صنع، فكلما توجهت وتلفتَّ فإن قدرة الله تجدها متجلية وعظمته خالدة باقية.
تفسير قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) يجعلنا نستشعر أن ربنا القادرُ على إحكام هذا النظام بهذه الدقة قادرٌ على إذلال العاصي وعدم إفلات الكافر، ولكنه اللطيف يمهل ويمهل، فهلَّا اعتبرنا وراجعنا أنفسنا وأبصرنا عيوبنا وأنبنا إلى الله مستغفرين معترفين بتقصيرنا؟